الكاتب إدريس زوزاني

الكاتب إدريس زوزاني

السبت، 20 سبتمبر 2014

"كارثة شنكال ومجزرة باسا وجهان لعملة واحدة"

مما يظهر للجميع ان التكرار في عالم الشرق الاوسط، وبالتحديد في الدول التي تنتهج غالبية شعوبها الثقافات الاسلامية المتطرفة التي لا تزال تعيش اوهام زمن الجاهلية والتفكير برجوع عصر الخلفاء والسلاطين على عروشهم، هؤلاء الذين لا يؤمنون بالتسامح والتعايش السلمي ونهج الديمقراطية والمساواة داخل مجتمعاتهم ويحاولون اعادة التاريخ الى الوراء، نقول لهم إن ذلك العهد قد ولى...
لذا اود الاشارة هنا الى بعض المعطيات لحادثتان منفصلتان متشابهتان من حيث حجمهما الكارثي واسلوبهما الاجرامي الكبير، الا وهو (الفرمان) او الابادة الجماعية للأيزيديين الباسيين في تركيا من قبل الجيوش العثمانية، وبمساعدة المتخاذلين معهم من رؤساء العشائر المحسوبين على الكورد في المنطقة. وبين ما حصل من  الكارثة الانسانية بحق المكون الأيزيدي في مدينة شنكال من حيث القتل والظلم والتعسف جراء تعرضها الى الهجوم المفاجئ من قبل مرتزقة تنظيمات الدولة الاسلامية (داس) الارهابي والمتخاذلين معهم من العشائر العربية وبعض من الاشخاص الضالين المحسوبين على الكورد في المدينة...
هنا يجب ان لا نستغرب لمثل هذه الامور لطالما نعيش في دول قوانينها سائدة وتشريعاتها معمولة ومستندة على هذا الاساس والجهات الرسمية ملزمة بتنفيذ بنودها وتؤيد افكار مجتمعاتها في اروقتهم السياسية تلبية لضغوطات ميولهم الدينية...

حملة ابادة (فرمان) الباسيين في تركيا 14/05/1916.
منطقة باسا تابعة لمدينة سيرت التي تقع في جنوب شرق تركيا، وتتكون المنطقة من عدة قرى يسكنها الأيزيديين الى جانب المسلمين والمسيحيين الارمن وتسمى ذلك المنطقة ب"بوتان". تعرضت الاقليات الدينية هناك الى حملة ابادة جماعية بطريقة وحشية من قبل الجيش العثماني التي بدأوها بالمسيحيين الارمن وانهوها بهذه الشريحة التي انتمي اليها بكل فخر واعتزاز...
اصدر الى الجيش العثماني القرار (الفرمان) للقيام بحملة ابادة جماعية على المكونات الصغيرة التي لا تعتنق الاسلام في الدولة التركية، حيث بدأوها بالمسيحيين الارمن الى ان وصلت الكارثة لمدينة سيرت وضواحيها بالكامل. حيث قتل جراءها الالاف المؤلفة وشرد وهجر الكثيرين منهم قسرا، ثم الضغط على من تبقى هناك اعتناق الإسلام جبرا، ليصل بعدها الامر بالتوجه نحو المناطق التي يسكنها الأيزيديين وبالأخص قرى الباسيين، الذين كان لهم موقف مشرف تجاه النازحين المسيحيين في محنتهم وإيوائهم في قراهم وبيوتهم واخفائهم عن انظار الجيش التركي...
بعدها واصلوا المجرمون مهمتهم ونفذوا مخططهم وتقدموا باتجاه قرى الباسيين الذين اعتبروا انفسهم بأمان جراء الوعود التي اخذوها من رؤساء العشائر الكورد في المنطقة آنذاك بعدم مغادرة مناطقهم والبقاء في بيوتهم لكونهم تحت حمايتهم، الى ان تصل في تلك الاثناء قوافل الجيش العثماني الغادر وعاملتهم معاملة المسيحيين وفرضوا عليهم الاعتناق بالإسلام او مواجهة المصير المجهول، ليهرب في تلك الاثناء من تمكن الهرب ويلاقي البقية حتفهم ونهب اموالهم وممتلكاتهم...
يؤلمني هنا ما كانوا يحدثونها به لنا اجدادنا الباسيين من قصص محاصرتهم وكيفية مواجهتهم المصير المحتوم، ولم يكن وقتها باستطاعتهم سوى مواجهة الموت او الاعتناق للإسلام، لأن من اعطاهم الامان غدروا بهم وطلبوا منهم التخلي عن دينهم بدلا من مواجهة الموت المحتوم. وكانوا يكملون حديثهم بان الموت بكرامة كان افضل من ترك معتقداتهم التي خلقها الله لهم...
واستمروا بحديثهم بان من تبقى من الناجين من هذه الحملة الشرسة توجهوا الى الجبال مختبئين فيه نهارا وسائرين ليلا، لحين وصولهم الى المناطق المحاذية لحدود مع العراق، وبالتحديد في قرية اسمها (جفتك). وطلبوا الباسييون منهم ايوائهم او حمايتهم  لبضع ساعات لأخذ قسطا من الراحة جراء التعب والارهاق والالم الذي لحق بهم. الا ان اهل القرية ومع الاسف الشديد طلبوا منهم تسليم اسلحتهم مقابل ما يطلبونه، وعند تسليم الاسلحة منهم تسلل الغدر الى قلوبهم وماتت ضمائرهم وبدأوا بقتل الاطفال وذبح الرجال وسبي النساء بطريقة وحشية وغير انسانية، وكما تبين في حديث احداهن كيف انهم كانوا يشقون بطون الحوامل بحراب بنادقهم، وكيف كانت الحرائر تربط ضفائرهن ببعضهن ويرمون بأنفسهن في نهر الخابور كي لا يقعن بأيدي هؤلاء المجرمين، وكانوا يفضلن الموت على الحياة، كما كان هنالك الكثير من مثل هذه الكوارث والقصص الاجرامية والمخيفة التي ارتكبت بحقهن في حينها...
ذكرتني هذه الحادثة بصرخة رجل شنكالي حينما صرح على الملء لقد غدر بنا جارنا الذي طهرت ابني في حضنه وتبين بعدها بانه كان من بين أولئك الذين قاموا بسلب اموالنا وخطفوا بناتنا امام انظارنا. لتوقفني كلماته وتذكرني ما حدث لأجدادنا قبل حوالي قرن تقريبا، وانتابني في لحظتها جرح عميق والم شديد، والحسرة اصبحت حسرتان واشتد بي الضيق وقتها للعيش بكرامة وحرية، وقلت لنفسي كم يشبه اليوم بالبارحة...
ولم تنجوا من هذه الكارثة المروعة الا العدد القليل من افراد هذه الشريحة حيث توجه قسم منهم الى مدن دهوك والموصل في العراق، كما اختبأ البعض منهم في المناطق الكوردية جنوب تركيا للخلاص بأرواحهم، وليتمكنوا خلالها الحفاظ على معتقداتهم ومبادئهم بالرغم من كل الويلات والماسي التي حلت بهم. وتزايدت بعدها اعدادهم حيث يعيش الان القسم الاكبر منهم في جنوب مدينة دهوك / كوردستان وكذلك الذين كانوا يعيشون في تركيا، يتواجدون حاليا في جمهورية المانيا واعدادهم في تزايد ملحوظ. بالإضافة الى من ارغموا الاعتناق للإسلام عنوة، لا يزالون يعيشون البعض منهم في جنوب تركيا ...
لا يخفي على احد ان ما حدث في مدينة شنكال مؤخرا بانها كانت كارثة حقيقية وراءها الافكار الاصولية المتطرفة التي تربطها الكثير مما حدث من حملة الابادة في باسا، وكما يظهر لنا من حيث الافكار الضيقة النظر بان الكارثتان وجهان لعملة واحدة.

كارثة شنكال في العراق 03/08/2014.
شنكال مدينة تاريخية عريقة تقع غرب مدينة الموصل ويعود تاريخها الى ثلاثة الاف سنة ق. م. وانها معروفة بصمودها وشجاعة اهلها، غالبية سكانها من المكون الأيزيدي الى جانب عدد قليل من المسلمين والمسيحيين، قاومت منذ نشأتها الجيوش الجرارة وهزمت الطغاة بكل اشكاله، لم تستسلم يوما لأعدائها بالرغم من كثرة معاناتها، كما انها نالت بما فيه الكفاية من الظلم والاستبداد. لقد سلبت حرياتها الشخصية كما تعرضت الى التهجير القسري وعربت مناطقها وحاولوا انتشار الفساد في جميع اروقتها والتأثير على كافة مكوناتها، لكنها عاندت واصرت على ان تبقى حرة صامدة في وجه كل من تطاول على حرماتها والنيل من كرامتها، وصدت كل من اراد الاساءة الى محيطها الاجتماعي...
لكن جراء الاحداث التي مرت بها المنطقة في الآونة الاخيرة وبسبب دخول التنظيمات الارهابية التي تسمي نفسها دولة الاسلام (داس) الى العراق وتعاملها الغير اخلاقي مع جميع المكونات العرقية والاجتماعية فيها، وما حصل لها من القتل على الهوية والذبح على الطريقة الاسلامية، حيث بدأوها بالمسيحيين الابرياء في الموصل واطرافها واجبارهم على الاختيار بين الاعتناق للإسلام او الرحيل من ديارهم او مواجهة الموت الزؤام، ليترك الجميع بيوتهم جراءها، ثم يحول المسار من بعدها تجاه مدينة شنكال وكافة مجمعاتها والمناطق التابعة لها...
لذا مع بدء صباح يوم 03/08/2014 شنت مرتزقة التنظيمات الارهابية على اوسع جبهاتها هجوما مباغتا غير متوقعا على هذه المدينة التي كانت محمية من قبل قوات البيشمركه، التي تخاذل بعض من قياداته العسكرية وتركزا مواقعهم الدفاعية وأمروا بقية القوات بالانسحاب من المنطقة بأكملها، ليتدخل بعدها الارهابين المجرمين والمتعطشين لقتل الابرياء الى المدينة واحتلالها...
وجراء ذلك الهجوم الذي شمل جميع انحاء المدينة تركوا الناس بيوتهم نازحين الى الجبال بشكل مفاجئ ومخيف، وتعرض من لم يتمكن من الهرب منهم الى اشرس انواع الظلم والاجرام. لقد ذبحوا من خلالها الاطفال وقتلوا الرجال وخطفوا وسبوا النساء بطريقة وحشية بعيدة عن كافة القيم الاخلاقية والمبادئ الانسانية...
ان ما حصل لهذه المدينة في تلك الاثناء لا يمكن للعقل ان يتقبله ولا لعاقل ان يصدقه ولا يستطيع الضمير استيعابه. لقد اصبح اقرب الناس عدوا لهم، هل اخطأت الكتب السماوية والادبيات الاجتماعية عندما دونت في طياتها بان حق الجار على الجار؟ وهل يصح ما نسمعه اليوم بان الجار يعتدي على جاره ولأتفه الاسباب فقط كونه لا ينتمي الى عقيدته؟ او ان يكون الجار عونا لنصرة الاعداء على جاره الذي ترعرع معه!! ووقف الى جانبه في السراء والضراء!! والذي عاشره حياته اليومية وشاركه الاحزان والافراح!! هل حقا وصل الحال بالإنسانية ان يتعدى الجار حرمات جاره؟ ام انها سفالة لن يفعلها سوى عديم الضمير والمجرد من الاخلاق، يا ترى كيف للمرء ان يستمتع بأحزان غيره!! يا له من زمن لا للإنسانية مكان فيه. هذا ما حدث في مدينة شنكال مؤخرا ومع الاسف...
كم من الاطفال قتلوا، وكم من النساء سبوا، وكم من الشباب ذبحوا، وكم من الالاف المؤلفة هاجروا بيوتهم ونزحوا الى الجبال، يا ترى ما ذنبهم؟ هل يعقل ان يصبح الانسان مهاجرا في وطنه وهو في عصر العولمة، ما ذنب هؤلاء الابرياء الذين نزحوا الى الجبال، اين هي الانسانية؟ يحاولون اعادة الزمن الى ما بعد العصور الجاهلية وزمن العبودية، ونحن نعيش في زمن العولمة، للأسف الشديد هذا ما حدث في مدينة شنكال مؤخرا...
لا شك ان حجم الكارثة كانت كبيرة، وانها فاقت جميع التصورات، والتضحيات جسيمة بعيدة عن كافة التوقعات، والخسائر لا تعد ولا تحصى. توجه الناس جراءها الى مصير مجهول، لم يكن لهم سند غير الجبل، ولم تكن لهم سوى الصرخة مفر، لقد حاصرهم الاوغاد لأيام بلياليها، دون ماء ولا طعام ولا مأوى، غطاؤهم كانت الصخور القاسية، وتحت حرارة الشمس العالية، فعلا انها كارثة انسانية كبيرة، لا بل انها ابادة جماعية واجهها الأيزيدييون في عقر دارهم، لم تشهد لها البشرية مثيل...
الاباء في انتظار عودة اولادهم، والامهات في انتظار عودة بناتهم المخطوفات، وينتظر الاولاد عودة اخواتهم والبنات بانتظار حرياتهم من الاسر، والزيجات تنتظر رؤية ازواجهم ثانية، والطلاب ينتظرون العودة الى مدارسهم، بينما ينتظر الجميع انهاء حالة الانتظار، والتخلص من الاوضاع المملة والظروف المعيشية المكتئبة وقساوة الهجرة في غربة وطنهم والعودة الى ديارهم بأسرع وقت ممكن...
اخيرا نقول مهما حاول الارهابيون ابادة المجتمع الأيزيدي وبأية وسيلة كانت او اي ظرف يكون، لن يستطيعوا ابادتهم ولم يستطيعوا فنائهم من الوجود.  لقد تغيرت الاوضاع وانتشروا ابناء هذه الشريحة في جميع بقاع الارض، ولم يعد هناك تأثير عليهم في مثل هذه الظروف الاستثنائية، وهم في عصر لا يقبل الاعتداء عليهم، ولن يسمح بحكم القوي على الضعيف، ولا مصير للإرهابيين والجزارين سوى الزوال، وبإمكان الجميع العيش بأمان وسلام ووئام.

إدريس زوزاني
ألمانيا / 20/09/2014